الموضوع: مواضيع حسينية 1
عرض مشاركة واحدة
قديم 2014/08/04, 02:46 PM   #3
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

البيعة ليزيد


صفا لمعاوية الجو وملك نحو أربعين سنة ملكاً قلّما يسمح الزمان بمثله، وهوفي خلال ذلك لا يفتر عن عمله ليله ونهاره فيستكثر أعوانه، ويعزّز إخوانه ويستحوذ على من يشاء بما أُوتي من مال ودهاء، واستمال إلى أهوائه أمثال زياد وابن العاص والمغيرة من الدهاة فمد أطناب حزبه ورواق مأربه، وانقادت إليه حتى آل هاشم. ولكن الرجل استحب دوام هذا السؤدد لبيته ومن يخلفه في إنفاذ نواياه، إذ عرف أنّ سلطانه وقتي وقسري ـ وما كان بالقسر لا يدوم ـ فأراد إثباته في بيته مادام حياً; لأنّه يخشى من موته انقلاب الأمور على بنيه، لا سيما وابنه يزيد موضع نقمة الجمهور وفي الناس مَن هو أقدم منه وأولى، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ـ بعد أن ذلل الصعاب ومهّد السبل لغاياته ـ غير أنّ الأُباة أبوا عليه البيعة ليزيد، واتخذت عملية معاوية هذه كمناورة يمتحن بها مخالفيه، ثم أوصى ولده يزيد بأن لا يمس هؤلاء بسوء إذا أبوا عليه البيعة بعد موته إلاّ ابن الزبير، والسر فيما ارتآه داهية قريش هو أنّ البعض من هؤلاء ضعيف النفس مسبوق بغضاضة.
وأما الحسين السبط فنفس أبيه بين جنبيه ويخشى على البيت الأموي من التعرّض له، وبما انّه رجل الفضيلة يؤمل فيه أن يستمر على سكوته وسكونه إذا </span>
الصفحة 72 علم برغائبه ومداراته، ويخشى من قيامه أن يقوم الحجاز والعراقان معه حين لا معاوية لديه ولا ابن العاص.

أمّا ابن الزبير فذو نفسية حربية مع أعدائه وذو دهاء مع رقبائه ولكنه كأبيه شحيح لا مطمع فيه، فالعدو لا يأمن منه والصديق لا يأمل فيه، فاستهان القضاء عليه من دون توقع محذور في معاداته. ولكن يزيد لم يعمل بهذه الوصيّة إذ أنّه عاش عيشة ترف قضاها في الصيد والسكر واللهو، ومثل هذه التربية تسوق صاحبها لعبادة الهوى والاغترار بسلطان الشهوات، فلا يحترم قديماً، ولا يحتشم عظيماً، ولا يحتفل بالدين، ولا برغائب الجمهور.
وعليه فما مات معاوية إلاّ والأوامر تترى من يزيد على ابن عمه الوليد ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة ومن الحسين وابن الزبير خاصة فتلقى الوليد بن يزيد بن أبي سفيان أوامره بكل رهبة واحتياط، وكان يعرف سوء سمعة يزيد كما يعرف حسن شهرة هؤلاء عند المسلمين عامة وعند أهل الحجاز خاصة، فأدت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر بصورة ودية مع المداراة لرغائبهم وحركاتهم قبلما يأخذ البيعة العامة في مسجد النبي ليزيد كخليفة، فأرسل إلى الحسين والى ابن الزبير ليحضرا لديه فجاءه الحسين (عليه السلام) ومعه ثلة من أقربائه، ولم يدخلوا معه فاستقبله الوليد بالترحاب ومروان(1) جالس متغيّر وتكاد تقرأ ما في
____________
1) هو مروان بن الحكم بن العاص بن أُمية.
ولد في السنة الثانية للهجرة وطرده النبي (صلى الله عليه وآله) مع أبيه الى الطائف لأنّ أباه الحكم أسلم مع أبي سفيان يوم الفتح كرهاً ونفاقاً وكان يستهزىء بالنبي (صلى الله عليه وآله) إذا غاب عنه ويهجس الى المشركين بأخباره، فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) عليه وطرده فأواهما عثمان في خلافته واتخذ مروان كاتباً عنده، فنقم المسلمون ذلك عليه لا سيما بعد تزويره كتاباً عن لسان الخليفة يأمر فيه عامل مصر بقتل محمّد بن أبي بكر ورسل المدينة.
وكان مثار الفتن يوم الدار وفي الحروب التي أقامها معاوية ضدّ الامام علي (عليه السلام) وبايع الإمام نفاقاً كما أسلم أبوه نفاقاً وسرعان ما نكث البيعة وخرج مع طلحة الى حرب البصرة ثم رمى طلحة. ولما أسره الإمام (عليه السلام) تشفّع فيه الحسن (عليه السلام) فخلا سبيله. ولما تقدم ليجدد بيعته أبعده الإمام قائلاً: «لا حاجة لي في بيعته إنّها كف يهودية، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منهم يوماً أحمر». ثم هرب مروان الى معاوية وخرج الى صفين، وبعد صلح معاوية مع سيدنا الحسن (عليه السلام) تولى إمارة المدينة فالحجاز كلّه، وأخذ فدكاً لنفسه، ثم أساء معاوية الظن فيه فعزله. وبعد موت معاوية بن يزيد تولى الخلافة ثم خنقته زوجته سنة 65 هـ بالشام.

الصفحة 73 قلبه من سحنات وجهه. وابتدأ الوليد ينعى معاوية فاسترجع الحسين (عليه السلام) ثم قال الوليد: «إنّ يزيد استحب اقتراح البيعة فماذا ترى؟» فأجابه الحسين: «إنّ البيعة تحسن من مثلي لمثل يزيد أن تكون علانية وبملأ من الناس، فالأولى أن تؤجلها إلى موعد اجتماع الناس في المسجد» فأجابه الوليد بكل لين وتساهل، غير أنّ مروان عكر صفو السلم، وقال: «يا أمير لا تدع حسيناً يخرج من عندك بلا بيعة فيكون أولى منك بالقوة وتكون أولى منه بالضعف، فاحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه» فوثب عندئذ حسين المجد قائلاً: «يا ابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولئمت» ثم انصرف هو وبنو هاشم.

كان الوليد ومروان كلاهما يبغيان إخضاع الحسين (عليه السلام) ليزيد ولكن ذاك بالسياسة وهذا بالتهديد، وكأنّ الوليد أراد أن يستميل قلب الحسين ويسترق من لسانه كلمة القبول ـ ولو سرا ـ لعلمه أنّ الحسين رجل الصدق والثبات، فلا يعدل عن كلمته وليس بذي لسانين، إسرار وجهار، ولا ذا وجهين محضر ومغيب.
أمّا مروان فكأنّه علم أنّ المسلمين إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره </span>
الصفحة 74 ومنبره، وحضر لديهم ريحانة النبي وبنو هاشم وقوف وبنو الأنصار جلوس، فإن المؤثرات المعنوية والحسية لا تسفر إلاّ عن البيعة للحسين وخسران صفقة يزيد.

وبالجملة فإنّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه، غير أنّ الخبر لم ينشر خارج المدينة لمراقبة الوالي وفقد وسائل المخابرات. أما الحسين (عليه السلام) فقد عرف أنّ مروان سوف يخابر يزيد على عزل الوالي أو يحمل الوالي على الوقيعة بالحسين وآله، وأنّ يزيد وحزبه ينقادون لإرادات مروان بشخصيته البارزة في الحزب السفياني، وقديم عدائه للنبي وآله. وقد كان هو وأبوه طريدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعلونين على لسانه(1) فلا بد وأن ينتقم من ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله) بالمثل أو يزيد، فلم يجد الحسين (عليه السلام) بدّاً سوى الهجرة الى حرم الله.

____________
1) قال الجاحظ في رسالة المفاخر: إنّ مروان بن الحكم كان هو وأبوه ملعونين على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) وطريديه من المدينة مدة حياته، ثم في عهد أبي بكر وعمر كلما تشفّع عثمان فيهما وفي إيوائهما لم يجد حتى ولي عثمان فآوي مروان إلى المدينة على كره المسلمين ذلك حتى كان هذا الأمر أحد أسباب قيام المسلمين على عثمان وقتله».

الصفحة 75
نظرة في هجرة الحسين


يصف الواصفون لتاريخ الحسين (عليه السلام) أشد ليالي حياته عليه ليلة مقتله في الطف، تلك الليلة التي حوصر فيها هو وذووه في بقعة جرداء وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ومُنع حتى من شرب الماء المباح فلم تهجع عيناه حتى الصباح، ولا يبعد أن يكون أشد ليالي الحسين ليلة مرجعه من مجلس الوالي في المدينة وحيرته في سيرته مع القوم الظالمين، إذ كان الحسين (عليه السلام) ليلة مقتله على بصيرة من أمره، وأن ليس بينه وبين الجنة سوى سويعات; لكنما الحسين (عليه السلام) في ليلة هجرته من مدينة جدّه كان في جهاد فكري وألم عقلي يفكر في مبايعته ليزيد وكونها ضرباً من المحال، ثم يفكر في بقائه في حرّم جدّه، ولكن ذلك استسلام لمروان فيما يفعل به وبأسرته من قتله المستلزم لقتال رجاله وذبح أطفاله ونهب أمواله وإرسال بناته مع رأسه إلى يزيد.
كان مروان ممن يفعل ذلك ويزيد عليه تشفيّاً لنفسه وانتقاماً لأمية وتزلفاً ليزيد. ولم يكن ابن مرجانة بأوتر منه ولا أشقى، إذن فبماذا يصنع الحسين (عليه السلام)؟ إلاّ أن يهاج إلى مكة ابتغاء الابتعاد من المنطقة المروانية، ولقاء وجوه المسلمين في الحج، وانتظار الفرج. ولكن كيف يهاجر بأسرته الوفيرة العدد بلا عُدد؟ والهجرة بالأهل ليس بالسهل، لا سيما في مسالك وعرة غامضة الحال مبهمة </span>
الصفحة 76 الاستقبال. وفي النهاية اختار الحسين (عليه السلام) هذا الرأي الأخير على حراجته، وأوصى بذلك إلى إخوانه ورجال أُسرته وهم يلبونه فيما يرغب مهما كانوا كارهين مع التأهب لما يجب كما يجب إلاّ محمّد بن الحنفية فإنّه سأل أخاه البقاء في حرم جدّه بين أنصاره، فأجابه الحسين (عليه السلام) بمبلغ عداوة يزيد معه وسوء نيّته فيه وضعف ثقته في ناصريه.

فقال ابن الحنفية: «إن كان ولا بدّ من ذلك فما معنى حملك النسوة والذرية؟» فلم يجد الحسين (عليه السلام) مقنعاً لأخيه إلاّ أن يقول له: إنّه من فرط الحب المتبادل بينه وبينهن لا يستطيع فراقهن كما لا يرضين بفراقه، ولو جرى عليهن ما شاء الله أن يجري، فقال ابن الحنفية: «إنك يا أخي أحب الناس إليّ وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لغيرك، تنح ببعيتك عن يزيد، ثم ابعث رسلك إلى الناس، فإن بايعوك حمدت الله وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص دينك ولا فضلك ولم تذهب به مروتك» قال الحسين (عليه السلام): «فأين أذهب يا أخي؟» قال: «انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فيه وإلاّ لحقت بالرمال والجبال، ومن بلد إلى بلد حتى تنظر ما يصير إليه الناس فتكون أصوب رأياً» فجزاه الحسين خيراً.
وقد استبقاه أخوه لضرورة وجود من يعتمد عليه في مركزه عماداً للبيت ومحافظاً لودايع أهله كما استبقى على مثل ذلك ابن عمه عبد الله بن جعفر الطيار.
وكان عبد الله بن جعفر ختن الحسين على أخته وشقيقته زينب العقيلة بنت علي (عليه السلام). ولما علم عبد الله بتوجه الحسين من مكة نحو العراق، ألحقه بولديه عون ومحمّد(1) وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه: «أما بعد; فإنّي اسألك بالله لما
____________
1) في مقاتل الطالبيين: «إن عون بن عبد الله بن جعفر أُمه زينب العقيله إلى أن قال: والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة (عليها السلام) في فدك فقال: «حدثتني عقليتنا زينب بنت علي» أمّا أم محمّد فهي الخوصاء.

الصفحة 77 انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستيصال اهل بيتك، وإن هلكت اليوم طفي نور الأرض، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي والسلام».

وسار عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين (عليه السلام) أماناً ويمنيه ليرجع عن وجهه. فكتب إليه عمرو بن سعيد ولحقه بحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتاب وجهدا في الرجوع فقال: «إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا ماض له» فقالا: «فما تلك الرؤيا؟» قال: «ما حدثت أحداً بها ولا أنامحدث حتى ألقى ربّي عزّ وجلّ» فلما آيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بملازمة الحسين والمسير معه والجهاد دونه.
لقد فشل ابن سعيد ـ والي الحجاز بعد الوليد ـ في تدابيره لاقناع الحسين بالرجوع إلى مكة كي يحصره فيها وفي منطقه نفوذه، وقنع عبد الله بن جعفر الطيار عن الإمام بإجازة بقائه في وطنه وقنع الحسين (عليه السلام) منه بإرسال شبابيه الباسلين، وقد كانا ناصريه بالنفس والنفيس وكانت أُمهما زينب نصيرته في نهضته، وخليفته على صبيته، وسلوته من كل أحزانه، ومديرة أمر عياله وبيوت أصحابه ورجاله، ولولاها لا نفرط عقد يتماه بعد قتله، ولولاها لانتشر نظام أهله بعد انتهاب رحله، ولولاها لقضي على خلفه العليل وانقرض نسله الأصيل.
</span>
الصفحة 78 </span>الصفحة 79
هجرة الإمام من مدينة جدّه


سار حسين النهضة من حرم جدّه ولم يقتصر في الوداع على قبره الطاهر إذ المسافر يوادع من وطنه المحبوب كلما وقع نظره عليه من صحاب وأحباب وغيرهما حتى الماء والتراب، أما ركب الحسين (عليه السلام) فكانوا يوادعون الربوع وداع من لا يأمل الرجوع.
خرج الحسين من حرم جدّه (صلى الله عليه وآله) خائفاً يتقرب يناجي ربه لينجيه من فراعنة مصره ونماردة عصره ذكراه رحمة ربه، ومبدؤه خوف ربه، وغايته ببيت ربه. سائراً في المنهج الأكبر ـ أي الشارع السلطاني ـ فقيل له: «لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب» فقال: «لا والله لا أُفارق الطريق الأقوم حتى يقضي الله ماهو قاض» ونزل مكة يوم الجمعة ثالث شعبان وهو يتلو: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
</span>
الصفحة 80 </span>الصفحة 81
الهجرة الحسينية وانقلابات حول الستين


للحوادث أدوار تتعاقب كالليل والنهار، والتاريخ يعيد نفسه باختلاف الأطوار، فما اشبه هجرة الحسين (عليه السلام) بأهله من المدينة إلى مكة خوفاً من اّل أبي سفيان بهجرة جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) بأهله إلى المدينة من مكة خوفاً من أبي سفيان وحزبه، وبين اليومين نحو ستين عاماً، كذلك مجد أُمية وأبي سفيان انقرض في فتح مكة على يدي محمّد بن عبد الله النبي الهاشمي (صلى الله عليه وآله) وانقرضت ثانيةً دولة آل أبي سفيان بعد مقتل الحسين (عليه السلام) ببضع سنين، وبين اليومين نحو ستين عاماً،.. ثم بنيت على أنقاضها حكومة مروانية عاشت نحو ستين عاماً، ثم انقرضت هي وكل مجد لأُمية على يدي محمّد بن عبد الله القائد الهاشمي.
وأولوا المبادىء والهمم والعلماء بمجاري الحركات في العالم لا تبرد عزائمهم مهما خابت مساعيهم ويواصلون المسعى بالمسعى وإن فشلوا والدهر دوار، وللتاريخ تكرار، وللنفوس إقبال وإدبار. فالناهض بفكرة صالحة لابدّ وأن يثابر على نشرها والدعوة إليها ثابت العزم راسخ القدم لا تزحزحه عواصف العواطف ولا تزلزله قواصف المخاوف. ولكن عليه أن يستخدم في سبيلها العبر والغير والأحوال، وبقاء الحال محال، حتى لو وجد محيطه بالغ الفساد غير صالح للإصلاح استبدل عن المكان بمكان، وعن الجيران بجيران، تلك سنّة الأنبياء </span>
الصفحة 82 والمصلحين حتى إذا فاز بهيئة صالحة وقوة مسلحة عاد إلى مركزه ـ والعود أحمد ـ كذلك محمّد (صلى الله عليه وآله) من مكة ثم اليها وذياك موسى من مصره ثم إليه.

وليس حسين التاريخ بدعاً من رسل الإصلاح إذا هاجر من موطنه خوفاً على مسلكه أو أملاّ بنهضته وكيف كان فقد سمعت الأسباب التي دعت حسيناً أن يغادر يثرب خائفاً يترقب فاسمع الآن آثار هذه الهجرة وحسن انعكاسها في العالم الإسلامي، وقد سبق أنّ المخابرات بين المدينة والمدن كانت تحت المراقبة ومفقودة الوسائل والوسائط فصارت حركة الحسين (عليه السلام) قضيه ذات بال تناقلتها المحافل والقوافل والناس بعد حلول أم القرى ومن حولها سوابل جاريةً إلى الجهات. فانتشر الخبر بأهمية لا مزيد عليها حتى صار حدث كل اثنين يجتمعان.
س ـ ما وراك؟
ج ـ هاجر الحسين (عليه السلام) من مدينة جدّه.
س ـ لماذا؟
ج ـ لأنّ يزيد قصد إرغامه على مبايعته.
س ـ نعم! نِعم ما صنع الحسين (عليه السلام) فإنّه لو بايع يزيد الجائر المتجاهر بفسقه فعلى الإسلام السلام، إذاً ماترى أن يكون؟
ج ـ ليس سوى اجتماع المسلمين حوله ونصبه خليفة كأبيه علي (عليه السلام) ليحيي بعلمه معالم دين جدّه، ويحامي بغيرته الهاشمية عن مصالح المسلمين، وينفذ بقوة إيمانه العلوي أحكام القرآن النازل في بيته.
هذه وأمثالها كانت أحاديث أكثر المجاميع يومئذ في الحجاز أولاً وفي سائر الأقطار بعده، وما فاز الحسين بهذه الإذاعة والإشاعة إلاّ بخروجه من المدينة مظلوماً وناقماً على الظالمين.
</span>
الصفحة 83
الحسين وابن الزبير


استقوت بحركة الحسين (عليه السلام) عزائم ابن الزبير، وجهر بخلاف يزيد، ورفض بيعته، ولازم مكة أُم القرى يسلك مسلك الحسين، إلاّ أنّ غايته كانت الدعوة إلى نفسه في حين أنّ الحسين (عليه السلام) لم يصرِّح بالدعاء إلى شخصه وإنما أجهر برفض بيعة يزيد فقط، وبالتقيّة من شرّ أمية راضياً بأن يخلّى له السرب كي ينفذ إلى ثغر من الثغور، كذلك الشريعة تقضي على المسلم إذا لم يسعه إظهار دينه في بلده أن يهاجر منها إلى مأمن لا يضطر إلى التقيّة، وسبط الرسول (صلى الله عليه وآله) أحرى بالتزام شريعته. وكان يتسع نطاق شيعته يوماً فيوم لإخلاص الحسين (عليه السلام) في أمره، وجلي فضله، وسمو شرفه، وكرم محتده.
لكن حزب ابن الزبير ـ وإن كان صغيراً ـ قد نفع الحسين في تنفير العامة من بني أُمية وكانت لابن الزبير وأبيه سابقة سوء مع علي (عليه السلام) في بدء خلافته بالرغم من القربى الماسة بينهم حتى قال عنهما علي: «لم يزل الزبير منا حتى نشأ ابنه عبد الله» لكنما الغاية المشتركة من خوف وضعف اتجاه العدو القوي دعتهما إلى تجديد عهود الولاء ونسيان سوالف البغضاء، فصار يزور كل منهما الآخر عشية وضحاها وقد صار لمظهر اتحاد ابن الزبير مع الحسين أثر حسن ورهبة في نفوس من عاداهم ومن عداهم، وذهبت الرسل من الحرمين الى يزيد بأخبار مذعرة </span>
الصفحة 84 وبصورة مكبرة دعته إلى التأهب عليهما بكل ما أُوتي من قوة ومكيدة، فأرسل عمرو بن سعيد والياً على المدينة وأميراً على الموسم مزوداً بالتعاليم وموعوداً بالتأييد، فقدم مكة ليلة التروية.

</span>
الصفحة 85
وضعية الإمام في مكة


حل الحسين في حرم الله مستجيراً به ممن يريدون إرغامه على مبايعته لرجل الجور والفجور، وقد استحسن المسلمون اعتصامه بالتقاليد المقدسة عند المسلمين فأخذ القادمون إلى الحجّ يتهافتون عليه، ويهتفون بالدعوة اليه، ويطوفون حوله هذا يلتمس العلم والحديث وذاك يقتبس منه الحكم النافعة والكلم الجامعة ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة والرجل بينهم مرآة الكرامة والشهامة ومثال الحكمة والسلامة، فطارت في الأقطار أخباره وآثاره، وتواترت الكتب والرسل والوعود والوفود لا سيما من كوفة العراق ـ عاصمة أبيه ـ من وجوه شيعته ومواليه إذ بلغهم هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد وعرفوا خبر الحسين وامتناعه من بيعته وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا معاوية فحمد الله سليمان وأثنى عليه ثم قال:
«إنّ معاوية قد هلك وإنّ حسيناً أعلن على القوم خلافه وخرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا اليه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه.
قالوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه».
</span>
الصفحة 86 كتبوا إليه في أواخر شعبان، وشذّ أن ترى في الكتب المرسلة إليه كتاباً بإمضاء الواحد والاثنين، وإنما هي رقاع «مضابط» موقعة بأسماء آحاد وعشرات من وجهاء ورؤساء وشيوخ يعترفون بإمامته ويتمنون قدومه إليهم. بألفاظ جذابة ولكنها كذابة، ومواعيد جلابة لكنها خلابة، المشهور أحصوا عليه في أيام قلائل اثني عشر ألف كتاباً، فاختلفت عند ذلك الإشارات عليه من أصحابه وخاصته: فمنهم المشير عليه بإقامة مكة وإرسال عمّاله ودعاته إلى الجهات، ومنهم المشير عليه بالذهاب إلى اليمن منبت الإخلاص والإيمان ومهب الحكمة والعروبة. وقد سبق منهم لأبيه ولاؤهم الصادق منذ ولايه النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم ـ لولا أنّ المتوجه إلى اليمن ينقطع خط رجعته كما تنقطع مواصلاته مع الآفاق ـ ومنهم المشير عليه بالمسير إلى العراق، عاصمة أبيه، وموطن أصحابه ومواليه، ومعدن الفروسية والفراسة، ومنبت الأموال والرجال، وهما قوام كل حكومة.

</span>
الصفحة 87
الحسين يختار الكوفة


كانت خطة الحسين (عليه السلام) إلى حين تواتر الرسل والكتب إليه خطة دفاع عن نفسه والالتجاء من اّثام بيعة يزيد إلى ملجأ حصين.
غير أنّ صريخ البلاد والعباد وهتاف الأنصار والأمصار به وله وإليه حوّلا فكره من دفاع محدود إلى دفاع وسيع النطاق، رجاء نصرة الدين ودفع عادية الظلمة عن المسلمين فاستخار الله وندب إلى العراق ـ بعد ما كتب إليهم ـ ليث بني عقيل مسلماً ابن عمّه حتى إذا وجدهم على ما كتبوا إليه توجه إليهم بنفسه وأهله.
وكان مسلم كبقية آل علي رجل الصدق والصفاء ومثال الشجاعة والإيمان، فقام لأمر صهره وسيّده الحسين (عليه السلام) وماقدم الكوفة إلاّ وتكوّنت جماهير الرؤساء لأخذ يمينه يبايعونه نائباً عن الحسين وقد كان لآل علي (عليه السلام) وفي صدورهم عتاب مع أهل الكوفة في خذلانهم الحسن بن علي (عليه السلام) واغترارهم بدراهم معاوية. إلاّ أنّ حسن استقبالهم لمسلم محا كل عتاب وكفّر كل ذنب، لا سيما وأنّ الكرام سريعو الرضا والمصلح لا يحفظ غلاً أو حقداً.
فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) بإقبال العامّة وإخلاص الخاصّة، نادمين على ما فرّطوا في جنب البيت الهاشمي الذي كان سلطانه أنفع لدينهم ودنياهم. وحث الحسين (عليه السلام) على القدوم إلى العراق ليجدد على ربوعه معالم أسلافه.
</span>
الصفحة 88 </span>الصفحة 89
بنو أُمية والخطر الحسيني


أخذت قضية الحسين (عليه السلام) تحرك العزائم وتنبه المشاعر في الدوائر الأُموية، وساد القلق على حلفائهم وأوليائهم وهم عالمون أنّ حسيناً يضرب على أيدي الجائرين ولا يولّي فاسقاً أمر المسلمين، فغدت رجال الحكم الأموي ألسنة وعيوناً وأقلاماً وسيوفاً ضد الحركة الحسينية ـ لا سيما في مناطق العراق والحجاز ـ واستفزوا قبل كلّ شيء حكومة الشام والهيئة المركزية بالتأهب للخطر الهاشمي.
فكتب عمر بن سعد وعمارة بن عقبة وعبد الله بن مسلم وأضرابهم إلى يزيد: «أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين (عليه السلام) فإن يكن لك حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير ـ والي الكوفة ـ رجل ضعيف أو يتضعّف» وكأنهم ورسلهم استلفتوا أنظار حكومة الشام إلى أنه إذا رسخت أقدامه بين النهرين وأهلوهما شيعة أبيه ومدائن كسرى تواليه ـ منذ وليها سلمان وتزوج بشاه زنان ـ فأنوار مبادئه تشعّ ربوع إيران فيكون له منهم أنصار المال، وأنصار الحرب، وأنصار الرأي والإدارة، وأنصار لنشر معارف القرآن وعلوم شرع جدّه الزاهر. فإذا توفق بهم على تكوين حكومة راقية صار أولى من أُمية بالولاية على الأقطار حتى الحجاز والشام; لأنّ المهيمن على العراق يهدد الحرمين وخطوط مواصلات الشام إليهما، وربما يجدد العراق على الشام حرب صفين حينما أرض الشام خالية من الداهيتين معاوية </span>
الصفحة 90 وابن العاص.

أما يزيد فلم يكن منه بادىء بدء سوى استشارة «سرجون» مولى أبيه معاوية في كتب القوم إليه، فأشار عليه باستعمال عبيدالله بن زياد على العراق، وكانت بينه وبين يزيد برودة وأبرز سرجون ليزيد عهداً كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن قبيل وفاته حسب ما ذكره المؤرخون(1) فوافق يزيد على ذلك وأنهى إلى ابن زياد عهده وكتب إليه: «أما بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفها وتوثقه أو تقتله أو تنفيه» فأخذ ابن زياد من كتاب يزيد ورسوله قوة وبصيرة وصلاحية واسعة في المال وبث المواعيد.
رأت حكومة يزيد من الدهاء والحزم سكوتها عن ابن الزبير موقتاً حتى يحسم الزمان أمر الحسين (عليه السلام) الذي أصبح يهدد كيان أُمية أي تهديد، فإذا قضت أُمية لبانتها من الحسين سهل أمر ابن الزبير عليها; لأنّ الرعب يسود على أضداد يزيد بعد الإجهاز على الحركة الحسينية; ولأنّ موقع ابن الزبير في النفوس ليس كموقع الحسين منها، لا سيما وابن الزبير شحيح ـ ولا يسود إلاّ من يجود ـ ولأنّ ابن الزبير لم يرتبط ببلاد ذات خيرات وبركات كالعراق حتى يستفيد من ميزتها وذخيرتها لجيشه لو انتضى له جيش. فلو فرض استمراره على خلاف يزيد بعد الحسين فجند أُمية تحاصره في بلاد الحجاز القاحلة بين الجبال والرمال حتى يسلم هو وجنده أو يقاتل وحده، والوحيد مغلوب.

____________
1) كما في العقد الفريد ج2 ص306 وإرشاد المفيد ص84.

الصفحة 91
الكوفة بنظر الحسين


شاعت مبايعة العراق للحسين (عليه السلام) بالإمامة ففرح أولياءه وأهل الحرمين وتفاؤلوا من ذلك بعود الحق إلى أهله، عسى أن تموت البدع وتحيا السنن. لكن خاصة الحسين ـ بعد الاطلاع على سفرمسلم إلى العراق ـ كانوا بين محبذ ومخطّىء ويمثل الأخير عبد الله بن عباس فجاء إلى الحسين (عليه السلام) يحذّره من الرواح إلى العراق ويذكّره بخذلانهم أخاه وعصيانهم أباه في حين أنّهم لم يكونوا يحلمون بإمام كأبي الحسن (عليه السلام) أشرف الناس، وأذكاهم، وأفصحهم وأسخاهم، وأعلمهم، وأتقاهم يلبس الخشن ويكسوهم حلله، ويبيت طاوياً وينفق عليهم مأكله، ويكد من سعي وسقي، وتصدق على الفقراء. وإذا شنّت علهيم الغارات فهو في مقدمة المدافعين عنهم، يخوض بنفسه حومة الوغى حتى يهزم الجمع ويولون الدبر. فأي إمام يكون لهم كعلي وكيف كافئووه وأهله في حياته وبعد وفاته؟!
نعم; ابن عباس كان حبر الأُمّة وولي الأئمة، ربّاه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعلّمه وأسرّ إليه من صفوة معارفه، وكان راجح العقل والفضل والخلق، وكان من أعز أقرانه على الحسين، فإنّ علياً قام في سنوات اعتزاله الخلافة بتربية غلمة في المدينة من أُسرته وأحبّته.
لكن الإمام لم يأخذ برأي محذّر إذ كان يحسب نفسه فيواد والمحذّر في واد.
</span>
الصفحة 92 فحسين الفتوّة ـ ونفس أبيه بين جنبيه ـ لا يسعه إلاّ أن يلبّي المستغيث به ولا يطيق الصبر على محق الدين وسحق الموحّدين ولو ذاق في جهاده الأمرّين.

إنّ غاية ما كان يراه (عليه السلام) في تحذير المحذّرين أنّ العراق لا يفي بوعده ولا يقوم على عهده، فهب أنّ ذلك كذلك فما ضرّ الإمام أن يتم الحجّة عليهم قبل أن يتموا الحجّة عليه، فإن ظفر بمطلبه من إبادة الظالمين فبها ونعمت وإلاّ سار عنهم إلى الثغور القاصية حتى يفتح الله عليه بالحق وهو خير الفاتحين، أو يأتيه الموت فيلاقي ربّه غير خاضع لأعدائه.
أمّا رحل الحسين (عليه السلام) وفتيته فكانوا كلّما ذكروا العراق تجلّت لديهم ذكرياته الحسنى، وتذكّروا حنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجذاب والعواطف الرقيقة، وذكروا عذوبة مائة وطيب هوائه علاوة على ذكر من لقوه بالكوفه ممن تبودلت بينه وبينهم الحقوق والنعم والعواطف الحسنات.
فكانت هذه والتي سبقت خواطر مهمة أدّت إلى المسير نحو العراق وقبول ما استدعاه وكيله الأمين مسلم في كتابه، غير أن الجميع واثقون من أن الرحيل إلى العراق لو كان; فإنّما يكون بعد فريضة الحج وبعد الأضحى.


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس