الموضوع: مواضيع حسينية 1
عرض مشاركة واحدة
قديم 2014/08/04, 02:49 PM   #4
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

الكوفة تقاد إلى الحرب


خضعت الكوفة لدهاء ابن زياد بعد مقتل مسلم، وانقادت إليه أحياؤها ورؤساؤها، وذللت صعابها تذليلاً لكنه لم يزل قلق البال لعلمه بمبلغ تأثير الدعوة الحسينية في المجامع والمسامع وماله في العراق من سابقة ولاء وأولياء. وكان ابن زياد محنكاً قد درس هو وأبوه حالة العراق الروحيّة وسرعة انقلاب هوائه وأهوائه، وأنّ لأبنائه نائمة وقائمة، كم اغترت بهما أولياء الأمور والساسة، فجائز أن يأتيها الحسين (عليه السلام) بجنود لا قبل له بها، أو يتمركز بالقادسية فتلتف حوله قبائل بادية الشام وعشائر الفرات ـ ما بين الكوفة والبصرة ـ أو يحدث من اقترابه دوي ينعكس صداه في داخل الكوفة فيستفز الحسيات والنفسيات فيثورون عليه ويستخرجون من سجونه وجوه الشيعة ورؤوس القبائل، فلا يمسي ابن زياد إلاّ قتيلاً أو أسيراً.
وعلى أي يتهدّم كل ما بناه ولا يعود عليه التسامح إلاّ بالخسران، وعليه اندفع ابن زياد بجميع قواه إلى تأمين الخارج بعد تعزيز الأمن في الداخل وتحشيده الكوفيين لمحاربة الحسين (عليه السلام)، فبادر إلى احتلال القادسية قبل أن يسبقه إليها الحسين والنقاط المهمة في الحدود على خطوط سابلة الحجاز، ومالبث أن ورد عليه كتاب الحر الرياحي وأتته البشائر تترى على أنّ الحسين (عليه السلام) </span>
الصفحة 112 ورد وأبعد عن حدود الكوفة إلى جهة الشمال الغربي مسافة قاصية هو ونفر قليل من خاصته، بحيث لا يعود من الممكن أن يهيمن على ضواحي الكوفه فضلاً عما بينه وبين البصره، وأنّ جيش الحر الرياحي أصبح يراقبه في المسير وهو كاف بصدّه أور دّه.

بات ابن زياد ليلته هادىء البال، وكتب بذلك إلى يزيد لتأمين خواطر الهيئة المركزية، والمبادرة بتسجيل خدماته عند سلطانه. وكأنّي به قد نبّه على ميلان الحر وصلاته بجيشه مع الحسين (عليه السلام) وقال ابن رسول الله جذاب النفوس بهديه ومستملك القلوب بحديثه، فلا يبعد أن يعلن الحر في صحبته ولاءه وانضمامه اليه، ويسري نبأ تمرّده في أمثاله من أركان القيادة العسكرية، ويتسع الخرق على الراقع، أو يتمركز الحسين في الأنبار يحصر على ابن زياد الميرة والذخيرة، ولا يسع ابن زياد أن يحاصره بسبب شكل النهر، وموالاة عشائر البر، وقربه من مدائن كسرى.
وأينما حلّ سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) ناشراً دعوته الصالحة سواء العراق أو إيران ـ فإنّها تصادف انتشاراً ولا تعدم أنصاراً. فوثب ابن زياد يبث المواعيد ثانية ويوزع الأموال بين العشائر والأكابر ليؤلف منها أجناداً وقواداً.
</span>
الصفحة 113
ولاية ابن سعد وقيادته


كان التخوفّ من تسرب الدعوة الحسينية إلى وراء الفرات وحدود العجم لا يقصر عن التخوّف من قدومه الكوفة، لأنّ القطرين العراقي والفارسي بينهما علائق متواصلة ومصالح متبادله. حتى لقد كان اعزام عمر بن سعد حرب الحسين (عليه السلام) مع ترشحه لولاية الري بعض فصول هذه الرواية المحزنة، فإن ولاية إيران لا تكاد تستقر لابن سعد والحسين (عليه السلام) متوجه إليها بدعوة نافعة وحجة بالغة وعائلة من لحمة النبي (صلى الله عليه وآله) وبين الحسين وبين الفرس مصاهرة في العائله المالكة المنقرضة.
وكلّ هذه عوامل قويّة لنفوذ الدعوة الحسينية في بلاد كسرى، فلم يجد والي العراقين سبيلاً إلى إماتة هذه الظنون خيراً من ترشيح عمر بن سعد لولاية الري، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقاص من قواد جيشها الفاتح، فلهم من شهرته كل الرعب وله تمام الرغبة فيهم، إذ كانت ولاية جمة المنافع متنوعة المطامع، ظاهر أنّ ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قوية بإيقاف الحركة الحسينية ليتسنى لواليها حرية الإدارة والإرادة، لذلك لما رأى من ابن سعد تزلفاً إليه والى يزيد، ونقمة على نهضة الحسين (عليه السلام) يوم كتب إلى يزيد بقوة أمر مسلم في الكوفة، ويوم أفشى إلى ابن زياد سر ابن عقيل في وصيته اليه أقنع ابن زياد عمر بأخذ التدابير اللازمة لإخضاع حسين الشرف قبل التوجه إلى مهمته الأولى في إيران.
نعم، وجد ابن زياد عمر أصلح الناس لإخضاع الحسين (عليه السلام) سواء بغرض الإخضاع أو الإقناع، إذ كان يومئذ أمس الكوفيين رحماً بالحسين (عليه السلام) وعليه </span>
الصفحة 114 مسحة شرف من قريش ونسبة الى الحرمين، فسرّحه لمقابلة الإمام خداعاً واستطماعاً ـ وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع ـ.

أما ابن سعد فقد استمهل ابن زياد ليلته ليفكر مستعظماً إقدامه على مقابلة الحسين (عليه السلام) لعلمه أنّ الحسين داعية حق، وأنه كأبيه علي (عليه السلام) أفضل من أن يخدع وأعقل من أن ينخدع ولا يسع ابن سعد إذا قابله أن يقاتله، بل يقضي عليه واجبه الدنيي والرحمي أن ينضم إليه ويقاتل خصومه بين يديه. غير أنّ له في ملك الري قرة عين، وبهجة نفس، وراحة عائلة، وتأمين مستقبل مديد فبات قلقاً أرقاً بين جاذب ودافع، يجيل فكرته بين المضار والمنافع، ويردد أبياته المعروفة:


فوالله ما أدريوإني لحائرأفكر في أمري على خطرينأأترك ملك الري والري منيتيأم ارجع مأثوماً بقتل حسينحسين ابن عمي والحوادث جمةلعمري ولي في الري قرّة عينإنّ إله العرش يغفر زلتيولو كنت فيها أظلم الثقلينألا إنّما الدنيا بخير معجلوما عاقل باع الوجود بدينيقولون إنّ الله خالق جنةونار وتعذيب وغل يدينفإن صدقوا فيما يقولون إنّنيأتوب الى الرحمن من سنتينوإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمةوملك عقيم دائم الحجلين


وكأنّ خاطره الأخير حدثه بأنّه: ان أُظهر على الحسين (عليه السلام) فبها، وإلاّ فحسين الفتوّة أكرم من أن يعاقبه أو ينتقم منه.
وبالجملة: فلم يشعر بنفسه إلاّ قائداً جيشاً كثيفاً الى حرب الحسين (عليه السلام) في نينوى، إذ بها يلتقي الخط العراقي الإيراني بالخط العراقي الحجازي وهي المرحلة المشرفة على نقطة الأنبار، فبلغه نزول الحسين (عليه السلام) بكربلاء قبله بيوم مع قائد المفرزة الحر الرياحي.
</span>
الصفحة 115
منزل الحسين بكربلاء


إنّ عوامل اليأس التي تبعت نعي مسلم وسوء صنيع الكوفة به لم تؤثر في عزيمة الحسين (عليه السلام)، ولا ما بلغه من فاحش فعلهم برسوليه عبد الله ابن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي، ولا ما رآه في ملتقاه بجيش الحرّ، لأن داعي الحق لا يقنط من روح الله. ولكنما جيش الكوفة هو الذي صدّه عنها وعن كل آماله فيها فسلك ركبه وموكبه سبيلاً وسطاً لا يدرون الغاية ولا يعرفون النهاية. الحر يساير الإمام كي يخرجه عن حدود أميره حتى يعود إليه ببشارة تؤمّن باله وتطمّن خياله.
ويُخيّل للناظر في الحركة الحسينية أنّ في خلد الإمام أن يعبر الفرات الى الأنبار والمدائن عسى أن يجد لدعوته أنصاراً وشيعة وبيئة وسيعة، فبيناهم والحر في تيامن وتياسر إذ لحقهم راكب متنكب قوسه فسّلم على الحر وأصحابه ودفع اليه كتاب ابن زياد، فقرأه الحر على الحسين (عليه السلام) وإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا، ولا تتركه إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء».
فعرضوا عليه النزول فسأل الحسين (عليه السلام) عن اسم الأرض فقيل: كربلاء فقال: «نعوذ بالله من الكرب والبلاء، هل لها اسم غير هذا؟» فقيل له: العقر فقال: «نعوذ بالله من العقر، ما شاء الله كائن» ثم قال للحر: «دعنا ننزل في هذه القرية ـ يعني نينوى ـ، </span>
الصفحة 116 أو هذه يعني الغاضرية أوهذه ـ يعني الشفيثة ـ «. فقال الحر: «هذا رجل قد بعث إلي عيناً عليّ». فقال زهير بن القين: «إنّي والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد ماترون، وإنّ قتال هؤلاء القوم ألساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به» فقال الحسين (عليه السلام): «ما كنت لأبدأهم بالقتال» ثم نزل وذلك يوم الخميس ثاني محرم.

</span>
الصفحة 117
جغرافية كربلاء القديمة


إن لهذا البحث صلة قوية بوضوح مقتل الحسين (عليه السلام) وحوادثه التاريخية. واستيفاء هذا البحث يكلّف صاحبه، إذ لا يجد المصادر الوافية بالتفاصيل الجغرافية عن كربلاء القديمة في أيام قتل الحسين (عليه السلام).وإنّي أجتزىء في أداء هذا الواجب بالممكن، بحسب ما أظنّه.
إنّ كربلاء اسم قديم مأثور في حديث الحسين وأبيه وجدّه (عليهم السلام) ومفسّر بالكرب والبلاء، وأنّ كربلاء منحوتة من كلمة: كور بابل العربية، بمعنى مجموعة قرى بابلية منها نينوى القريبة من أراضي سدّة الهندية، ثم الغاضرية ـ وتسمى اليوم أراضي الحسينية ـ، ثم كربلة ـ بتفخيم اللام بعدها هاء ـ وتقرب اليوم من مدينة كربلاء جنوباً وشرقاً ثم كربلاء أو عقر بابل وهي قريبة من الشمال الغربي من الغاضريات وبأطلالها آثار باقية، ثم «النواويس»(1) وكانت مقبرة عامة قبل الفتح الإسلامي، ثم الحير ويسمى الحائر وهو اليوم موضع قبر الحسين (عليه السلام) الى
____________
1) جمع ناووس، وهو ظرف من خزف او من خشب. كان البابليون يضعون موتاهم فيها، يدفنوها، والنواويس مقبرة في كور بابل.
وقد جاء في خطبة الحسين (عليه السلام) المروية في الإرشاد: «وكأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء... الخ».

الصفحة 118 حدود رواق روضته المشرّفة أو حدود الصحن. وكان لهذا الحائر وهدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة(1) وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال وهكذا الى موضع الباب الزينبي من جهة الغرب، ثم تنزل الى موضع الباب القبلي في جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر الى مثوى سيدنا العباس بن علي (عليهما السلام) ويجد المنقّبون في أعماق البيوت المحدقة بقبر الحسين (عليه السلام) آثار ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجبهة الشرقية سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يرشدنا الى وضعية هذه البقعة وأنّها كانت في عصرها القديم واطئة من جهة الشرق(2).

ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء (عليه السلام) في حربه حين قتل كما سيأتي.
وأمّا نهر الفرات فكان عموده الكبير ينحدر من أعاليه يسقي القرى الى ضواحي الكوفة، وكذلك ينشق من عمود النهر «الشط» من شمالي المسيب نهر كفرع منه يسيل على بطاح ووهاد شمالي شرقي كربلاء حتى ينتهي الى قرب
____________
1) ويستنبط شكل الحائر على هذه الوضعية مما ثبت في تاريخ المتوكل العباسي عندما أجرى الماء على قبر الحسين لمحو مزاره وآثاره، فحار واستدار حول القبر والماء بطبعه يجري على الأرض المنخفضة وجوانب الحائر كانت ولا تزال نواشر لا يعلوها الماء غير الجانب الشرقي مما يلي نهر الفرات يومئذ، حيث كان الفيضان يشكل فيه من المشرعة احواراً وآجاماً، ثم يعود طفاً أيام الفيضان.
2) ويؤيد هذا ما رواه جعفر بن قولويه في كامل الزيارة، وشيخه الكليني في الكافي، والمجلسي في مزار البحار ص145 عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): «إنّ زائر الحسين يغتسل على نهر الفرات ويدخل من الجانب الشرقي الى القبر... الخ».

الصفحة 119 مثوى سيدنا العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ ثم الى نواحي الهندية، ثم ينحدر فيقترن بعمود الفرات في شمال غربي قرية ذي الكفل ويسمى حتى اليوم العلقمي، وكان هذا الفرات الصغير من صدره الى مصبه يسمى العلقمي. والطف اسم عام لأراضي تنحسر عنها مياه النهر وسميت حوالي نهر العلقمي البارزة من شواطئه طفاً لذلك، وسميت حادثة الحسين (عليه السلام) فيه بواقعة الطف.

</span>
الصفحة 120 </span>الصفحة 121
الإمام مصدود محصور


حلّ حرم الحسين (عليه السلام) حدود كربلاء في ثاني محرم سنة 61 هـ، وأنزل في بقعة منها جرداء بعيدة عن الماء والكلاء وصار معسكره زاوية مثلث يقابله جيش الحر في الغاضريات وجيش ابن سعد في نينوى. وكان الحر يرى مهمته المراقبة على مسير الحسين (عليه السلام) فقط غير مهتم في اخضاعه ولا في إقناعه ولا في إرجاعه، حتى وافاه عمر بن سعد مهتماً في إقناعه واخضاعه، فصار هو والحسين (عليه السلام) يتبادلان الروابط ابتغاء الوصول الى حلّ مرضي.
وكلّف ابن سعد من بين حاشيته رجالاً لمواجهة الإمام فأبوا معتذرين أنّهم من كتبوا إليه يدعونه، فعمّ يتساؤلون؟ فأرسل ابن سعد الى ابن الرسول (صلى الله عليه وآله) رسوله الحنظلي، فجاء الى الإمام وسأله على لسان أميره عن موقفه ومسيره فأجابه الحسين: «قد كتب إليَّ أهل مصركم يدعونني إليهم، أمّا إذا كرهتم ذلك فأنا أنصرف عنكم».
قال حبيب بن مظاهر للرسول ـ وهو من أخواله ـ: «ويحك يا قرة أن ترجع الى القوم الظالمين؟ انصرف هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة».
فقال له الحنظلي: «أرجع الى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي».
ثم انصرف الى عمر بن سعد وأخبره الخبر، فقال عمر: «أرجو أن يعافيني الله </span>
الصفحة 122 من حربه وقتاله» ثم كتب الى ابن زياد ما جرى بينه وبين الحسين (عليه السلام) وأنّ الإمام مستعد للانصراف عن العراق وعن كلّ أمل فيه.

قال حسان العبسي: كنت عند ابن زياد حينما جاءه هذا الكتاب وقرأه فقال:


الآن إذ علقت مخالبنا بهيرجو النجاة ولات حين مناص(1)


ثم اجتمع الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد تحرّياً منه للسلم واحتراماً للدماء فتناجيا طويلاً فكتب هذا الى ابن زياد:
«أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني عهداً أن يرجع الى المكان الذي أتى منه أو يسير الى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم».
ولما تلاه ابن زياد قال: «هذا كتاب ناصح مشفق على قومه» يعني على قريش، فقام شمر بن ذي الجوشن قائلاً: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك». فلما رأى ابن زياد في شمر التجاءً الى قوته وتحزباً لحكومته واستخفافاً بعدوّه الحسين وعصبته قال له: «نعم ما رأيت والرأي رايك، اخرج بكتابي الى ابن سعد فإن أطاعني فأطعه وإلاّ فأنت أمير الجيش
____________
1) وفي الإرشاد كتب الى ابن سعد: «أمّا بعد! فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فإذا هو فعل ذلك رأينا والسلام» فلما ورد الجواب على ابن سعد قال قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية. وورد كتاب ابن زياد في الأثر الى ابن سعد: «أن تحل بين الحسين (عليه السلام) وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان».

الصفحة 123 واضرب عنقه». وكتب الى عمر كتاباً يقول فيه: «إنّي لم أبعثك الى الحسين شفيعاً، ولا لتمنّيه السلامة، ولا لتعتذر عنه، فإن نزل هو وأصحابه على حكمي فابعث بهم إليّ وإلاّ فازحف عليهم واقتلهم ومثّل بهم، فإنّهم بذلك مستحقون، وإن قتلت حسيناً فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنّه علق ظلوم، ولست أرى أنّ هذا يضر بعد الموت شيئاً ولكن على قوله قد قلته».

جاء شمر بكتابه الى ابن سعد ـ والرجل السوء يأتي بالخبر السوء ـ فلما قرأ ابن سعد كتاب أميره وتلقّى أسوأ التعاليم من نذيره تغيّر وجهه وقال: «لعنك الله يا شمر، لقد أفسدت علينا أمراً كنا نرجو إصلاحه» لكنما ابن سعد بعد ما حسب شمراً رقيباً عليه ومهدداً له تجاهر إذ ذاك بلزوم اخضاع حسين العلا، فتبدّلت منه لهجته وفكرته وهيئته، فانتقل بجنوده الى مقربة من الحسين (عليه السلام) وثلث جبهات الحرب فصار هو في القلب بين الحيرة والنهر لصدّ الحسين من عبور النهر، ومن الورود منه، فإذا وجد الحسين (عليه السلام) سبل سيره مقطوعة ومشارع وروده ممنوعة اضطر الى النزال معهم أو النزول على حكمهم وهم واثقون من الغلبة عليه في الحالين.
ولما رأي الإمام ذلك علم أنّه مقتول لا محالة إذ هو نازل بالعراء في منطقة جرداء لا ماء فيها ولا كلاء، فإن انتظر قدوم الأنصار من أقاصي الأمصار هلكت صبيته وماشيته وتفرّقت حاشيته، ولقي من الجوع والعطش أشدّ مما يلقاه من عدوّه، وإن خضع للقوم وبايع أمية فقد باع الأمة والشريعة بعدما انعقدت فيه الآمال، وإن بدأ بحربهم خالف خطته الدفاعية حين لا مأمل في الانتصار عليهم في ظاهر الحال والحر إن لم يستطع أن يعيش عزيزاً فأحرى به أن يموت كريماً.
</span>
الصفحة 124 </span>الصفحة 125
الحسين مستميت ومستميت من معه


في مكارم الأخلاق تتلألأ خلة التضحية تلألؤ القمر البازغ بين النجوم الزواهر، فإذا شوهد في أمرء شعور التضحية اكتفى الناس بها عن أي مكرمة فيه أو أية مأثرة له، ولا عجب، فإنّ الصدق إذا عدّ أصل الفضائل فإن شعور التضحية هو من أجل مظاهر الصدق والمستميت يميت مع نفسه كل شبهة وشائبة من سمعة أو رياء أو مكر أودهاء.
إذاً فشعور شريف كهذا ينجم في تربة الصدق ويسقى بماء الإخلاص لابد وأن يثمر لأهل الحق بالخير الخالد، وإذا كان الموت ضربة لازب لا مهرب منه ولا محيد عنه فاشتر بهذا العمر القصير نفعا عاماً وخيراً خالداً. هي هي والله صفقة رابحة وتجارة لن تبور، فخير الموت الفداء، وأفضل الأضاحي من أمات هيكله البائد لإحياء نفع خالد.
كذلك الشهداء في سبيل إصلاح الأمة أو تحريرها من أسر الظالمين، وسيدّ هؤلاء الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) الذي أحيى ـ هووالذي معه ـ مجد هاشم، ودين محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومعارف القرآن، وشعائر الإسلام، وأخلاق العرب في وثباتهم ضدّ سلطة الجور والفجور. فلم تختلف لهجته، ولا تخلّفت سيرته، ولا وهنت عزيمته، ولا ضعفت حركته، ولا ضيَّع مصالح أعوانه لترضية عدوانه. ونفس قوية </span>
الصفحة 126 وأبية مثل هذه أضحت كالمغناطيس جذابة إليها أمثالها ومن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية ـ وشبه الشيء مجذوب اليه ـ فالتفّ حول الحسين الحق من صحبه وآله من نسجوا على منواله بتضحية النفس والنفيس في سبيل الدين وصالح المؤمنين، حتى أنّه يوم أحس بالصد والحصار بكربلاء وأنه مقتول لا محالة عزّ عليه أن يقتل بسببه غيره(1) فأذن لأهله وصحبه بالتفرّق عنه، حيث إنّ القوم لا يريدون غيره يدرأ عنهم الموت، ويحلّ بيعته عن ذممهم، فخطب فيهم قائلاً:

«أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وافئدة، فاجعلنا من الشاكرين أمّا بعد; فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ من بيعتي، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً»... الخ.
فقال له إخوانه وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: «لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً» فقال الحسين (عليه السلام): «يا بني عقيل حسبكم من القتل ما صنع بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم». قالوا: «سبحان الله! فما نقول للناس ويقولون لنا؟

____________
1) في العقد الفريد ج2 قال: «لمانزل ابن سعد بالحسين وأيقن انهم قاتلوه قام في اصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وادبر معروفها واشمأزت فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فاني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ ذلاً وندماً»... الخ.

الصفحة 127 أنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك».

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: «أنحن نخلي عنك؟ وبم نعتذر الى الله في أداء حقك؟ حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو قد علمت أنّي أُقتل ثم أحيى ثم أُحرق ثم أحيى ثم اُذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، هي الكرامه التي لا نفاذ لها أبداً».
وقام زهير بن القين فقال: «والله لوددت أنّي قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى اُقتل هكذا ألف مرّة وأنّ الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك».
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فيوجه واحد، فجزاهم الحسين خيراً.
وروي أن رجلاً جاء حتى دخل عسكر الحسين (عليه السلام) فجاء الى رجل من أصحابه فقال له: «إنّ خبر ابنك فلان وافى، أنّ الديلم أسروه فتنصرف معي حتى تسعى في فدائه». فقال: «حتى أصنع ماذا؟ عند الله احتسبه ونفسي». فقال له الحسين: «انصرف وأنت في حلّ من بيعتي أنا اُعطيك فداء ابنك» فقال:: هيهات أن اُفارقك ثم أسال الركبان عن خبرك، لا يكون والله هذا أبداً ولا اُفارقك»(1).

____________
1) انظر الإرشاد ومقاتل الطالبيين وغيرهما.

الصفحة 128


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس