نظرة في النصوص المتقدمة
ولا نريد أن نناقش في أسانيد الروايات المتقدمة ، فإن لنا فيها مقالاً . . بل نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية :
أولاً : إن النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن من السذاجة بحيث يقبل هدية هذه اليهودية ، ثم يأكل منها ، ويأمر أصحابه بالأكل منها . . وهو قد فرغ لتوه من تسديد الضربة القاضية لقومها . . كما أنه كان قد قتل زوجها ، سلام بن مشكم ، وأخاها كعب بن الأشرف قبل ذلك ، وعمها ، وغير هؤلاء . .
كما أن كل أحد قد رأى غدر اليهود المتكرر بالمسلمين ، وتآمرهم على حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر من مرة ، فلم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليغفل عن هذا الأمر ، ويتصرف بهذا الطريقة .
ولو فرض جدلاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد سكت عن هذا الأمر ، أو تغافل عنه لمصلحة رآها . . فإن من المتوقع جداً أن يبادر أحد المسلمين إلى الجهر بالاعتراض على الأكل من ذلك الطعام ، وإبداء مخاوفه من أن يكون مسموماً . .
ثانياً : إن من يقرأ الروايات المتقدمة ، ويقارن بينها ، يلاحظ : أنها غير منسجمة فيما بينها . . فلاحظ ما يلي :
1 ـ إن بعضها يصرح بأن الله تعالى ما كان ليسلط تلك المرأة عليه ( صلى الله عليه وآله ) .
لكن بعضها الآخر يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) في مرض موته : قد وجد ألم الطعام الذي أكله في خيبر ، وأخبر أن مطاياه قد قطعت ، أو أن ذلك هو أوان انقطاع أبهره . .
2 ـ يقول بعضها : إنه ( صلى الله عليه وآله ) قد قتل تلك المرأة ، وبعضها الآخر يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) قد عفا عنها . . وثالث يقول : إنه عفا عنها أولاً . ثم قتلت بعد موت بشر بن البراء . .
3 ـ بعضها يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يسغ ما تناوله من لحم الشاة . . لكن البعض يقول : إنه قد أساغ ما أكله منها . .
4 ـ وقالوا : إن الذي مات ، هو بشر بن البراء ؟! . وقيل : هو مبشر بن البراء ؟! (23) . .
5 ـ في بعض تلك الروايات : أنه ( صلى الله عليه وآله ) قد اتهم جماعة من اليهود بالأمر ، فجمعهم ، وسألهم عنه ، فأقروا به . .
وفي بعضها الآخر : أن المتهم هو امرأة واحدة منهم . .
6 ـ بعضها يقول : إن الذي أكل هو بشر بن البراء فقط ، وبعضها الآخر يضيف قوله : وأكل القوم . .
7 ـ بعضها يقول : إن الذي حجم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذه المناسبة هو أبو طيبة وقيل : بل حجمه أبو هند . .
8 ـ بعضها يقول : أكل القوم . وبعضها الآخر يقول : كانوا ثلاثة ، وضعوا أيديهم في الطعام ، ولم يصيبوا منه . .
9 ـ بعض الروايات يقول : إنه بعد اعتراف اليهودية بما فعلت ، أمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالتسمية ، والأكل من الشاة ، فأكلوا فلم يضر ذلك أحداً منهم . .
وبعضها الآخر يقول : لم يأكلوا . . وتضرر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وتضرر بشر بن البراء . .
ثالثاً : كيف يحسُّ بشر بن البراء بالسم ، ثم لا يخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأمر ، ويتركه يمضغ ما تناوله ، ثم يبتلعه ؟! . . فهل كان يعتقد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يموت ؟! . . أو أنه كان يعرف أنه يموت ، وأراد له ذلك ؟! . أم أنه لم يرده له . . ولكنه سكت عن إعلامه بالأمر ؟! . فكيف سكت ؟! . ولماذا ؟! .
رابعاً : يقول بشر : إنه خاف أن ينغص على النبي ( صلى الله عليه وآله ) طعامه . . وهذا غريب حقاً إذ كيف رضي من لا يحب أن ينغص على النبي ( صلى الله عليه وآله ) طعامه : أن يتناول هذا النبي ذلك السم ، ويموت به ؟! . .
وهل تنغيص الطعام على الرسول أعظم وأشد عليه من موته ( صلى الله عليه وآله ) ؟! .
خامساً : إنه كيف أقدم بشر على ازدراد ما يعلم أنه مسموم ؟! .
وما معنى هذه المواساة منه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ؟! . .
وهل يجوز له أن يقتل نفسه لمجرد المواساة ؟! .
وما هي الفائدة التي توخاها من ذلك ؟! . .
سادساً : هل الحجامة تنجي من السم حقاً ؟! . . ولو كانت كذلك ، فلماذا إذن لا يستفاد منها في معالجة من تلدغه الحية . . أو من يشرب سماً خطأ ، أو عمداً ؟! . .
ولماذا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين وضعوا أيديهم في الطعام ولم يأكلوا منه أن يحتجموا ؟! فإنهم لم يأكلوا من ذلك الطعام شيئاً!!
سابعاً : ما معنى قوله ( صلى الله عليه وآله ) : هذا أوان انقطاع أبهري ، فهل إن تناول السم يقطع العرق الأبهر ، حتى بعد أن تمضي على تناول ذلك السم سنوات عدة ؟! . .
وما هو الربط بين هذا العرق ، وبين ذلك السم ؟! . .
ثامناً : إن زينب بنت الحارث اليهودية قد اعتذرت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) عن فعلتها الشنعاء تلك ، بأنه ( صلى الله عليه وآله ) قد قتل أباها ، وعمها ، وزوجها ، وأخاها . .
وأخوها هو مرحب اليهودي ، الذي قتله الإمام علي ( عليه السلام ) في حصن السلالم ، الذي فتح بعد حصن القموص . . بل كان آخر ما افتتح من تلك الحصون (24) . .
وقصة الشاة المسمومة إنما كانت في حصن القموص حيث قتل مرحب هناك ، كما قاله ابن إسحاق 20 .
هذا كله مع غض النظر عن الشك في صحة كون مرحب أخاً لتلك المرأة . . فإن هناك من يقول : إنه عمها (25) . .
تاسعاً : إن بعض الروايات تحدثت عن أن اليهودية قد قُتلت وصُلبت ، حين مات بشر ، كما في شرف المصطفى . لكن عند أبي داود : أنه صلبها 18 . .
غير أننا نعلم : أنه ليس في العقوبات الإسلامية الصلب للقاتل . . لاسيما إذا أخذنا بروايات العفو عنها من قِبل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قبل ذلك . . حيث لا يحتمل أن تكون عقوبة قاتل غير النبي القتل والصلب . .
هذا كله . . مع غض النظر عن أن روايات العفو عنها تناقض الروايات القائلة بأن بشراً مات من ساعته ، ولم يبق إلى سنة . .
عاشراً : أما ما ذكره أنس من أنه ما زال يعرف ذلك ـ أي السم أو أثره ـ في لهوات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !!! فهو غريب ، إذ كيف يمكن أن يرى أنس ـ باستمرار ـ لهوات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟! . فإن اللهاة لا تكون ظاهرة للناس ، إذ هي لحمة حمراء معلقة في أصل الحنك . .
ولو أنه كان يرى لهواته ( صلى الله عليه وآله ) ، فما الذي كان يراه فيها ، هل كان يرى السم نفسه ، أو يرى صفرة أو خضرة ، أو أي شيء آخر فيها ؟! . .
حادي عشر : ظاهر رواية المنتقى : أن بشراً قد التقط اللقمة التي لفظها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فأكلها ، فمات منها . .
فلماذا فعل ذلك يا ترى ؟! . ألم يلتفت إلى أن لفظ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لها قد كان لأمر غير محبب دعاه إلى ذلك ؟! .
ولنفترض : أنه إنما أخذها ليتبرك بأثر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبريقه الشريف ، فإن السؤال هو : ألم يكن ينبغي أن ينهاه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عن أكلها ، بعد أن أحس بما فيها من سم قاتل ؟! . .