نقد الروايات
وكما لم نتعرض لمناقشة أسانيد روايات أهل السنة ، رغم ما فيها من هنات ، فإننا سوف نغض النظر عن الحديث عن أسانيد روايات الشيعة أيضاً ، وإن كنا نجد من بينها ما هو معتبر من حيث السند ، ونكتفي بمناقشة متونها ، فنقول :
أولاً : قد ذكرت الرواية الأولى : أن البراء بن معرور هو الذي أكل من الشاة المسمومة فمات .
مع أن البراء بن معرور ، قد توفي قبل أن يهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة بشهر (31) . .
ولم يحضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) موت البراء ، لكنه ( صلى الله عليه وآله ) حين هاجر زار قبره . ويقال : إنه قد صلى على قبره 31 . .
وقضية خيبر إنما كانت في السنة السابعة بعد الهجرة ، فكيف يكون البراء بن معرور قد مات من أكلة خيبر ، إذا كان قد مات قبلها بسبع سنوات ؟! .
وقد يعتذر عن ذلك بأن ثمة سقطاً من الرواية . وأن الصحيح هو : بشر بن البراء . . لكن تكرر كلمة البراء في الروايات مرات عديدة يأبى قبول هذا الاعتذار ، فإن السهو لا يتكرر في جميع الموارد عادة كما هو واضح .
ثانياً : إن هذه الروايات التي رواها الشيعة تختلف مع بعضها البعض :
1 ـ فرواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) ، تقول : إن الضحية هو البراء بن معرور ، وروايات أخرى تقول : إنه بشر بن البراء بن معرور ، ورواية ثالثة تقول : إنه بشر بن البراء بن عازب . .
2 ـ رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) تقول : إن الذي مات ، قد مات وهو يلوك اللقمة .
والرواية التي بعدها تقول : إنه قد ابتلع اللقمة .
3 ـ يظهر من بعض تلك الروايات : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يأكل من الذراع . .
ومن رواية أخرى : أنه ( صلى الله عليه وآله ) قد لاك اللقمة ولم يسغها . .
وبعضها يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) قد أكل منها ما شاء الله . .
4 ـ بعضها يقول : إن إخبار الذراع له ( صلى الله عليه وآله ) بأنها مسمومة كان قبل أن يسيغ اللقمة ، وغيرها يقول : إن الذراع تكلمت قبل أن يبدأ هو وأصحابه بالأكل منها ، وبعض آخر يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) قد أكل منها ما شاء الله ، ثم أخبرته الذراع بأنها مسمومة . .
5 ـ الروايات تصرح بأن اليهودية هي زوجة سلام بن مشكم ، لكن رواية الخرائج والجرائح تقول : إنها امرأة عبد الله بن مشكم ، ولا نعرف أحداً بهذا الاسم فيما بين أيدينا من مصادر . .
6 ـ الروايات تقول : إن اسمها زينب ، ورواية الأصبغ عن الإمام علي ( عليه السلام ) تقول : إنها يقال لها عبدة . .
7 ـ رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) تقول : إن القضية كانت في المدينة . وسائر الروايات تقول : في خيبر . .
8 ـ الروايات تتحدث عن أن اليهودية جاءته بذراع أو شاة مسمومة ، لكن رواية الأصبغ تقول : إن اليهودية دعته للاجتماع مع الرؤساء في بيتها ، حيث قدمت له الشاة المسمومة .
9 ـ وأخيراً . . هل جاءته بذراع ؟! أم جاءته بشاة ؟! إن الروايات قد اختلفت في ذلك .
إلى غير ذلك من موارد الاختلاف ، التي تظهر بالتتبع والمقارنة . .
ثالثاً : إنه إذا كان الإمام علي ( عليه السلام ) قد صرح بأنه يشك في هدية تلك اليهودية ، كما ذكرته رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) ، معللاً ذلك بقوله : ولسنا نعرف حالها . .
فلماذا لم يشك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيها أيضاً ، ولم يحذِّر من معه من الأكل منها . بل بادر إليها فأكل منها ما شاء الله ، أو أنه لاك ما تناوله منها ، ثم أساغه ، أو لم يسغه ، حسب اختلاف الروايات ؟! . .
ولماذا لم يحذر الإمام علي ( عليه السلام ) النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، من الأكل منها ، كما حذر البراء بن معرور ؟!
وإذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) حاضراً في المجلس ينتظر إحضار الخبز ، وكان يسمع الحوار بين الإمام علي ( عليه السلام ) ، وبين ابن معرور ، فلماذا لم يأخذ تحذير الإمام علي ( عليه السلام ) بعين الاعتبار ؟! . .
بل لماذا لم يؤثر هذا التحذير بالبراء نفسه أيضاً ؟! . .
رابعاً : قد ذكرت رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) : أنه ( صلى الله عليه وآله ) دعا قوماً من خيار أصحابه . . ثم عددتهم ، وذكرت من بينهم صهيباً . مع أن صهيب الرومي كما ذكرته الروايات والنصوص ، كان عبد سوء ، وهو ممن تخلف عن بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من أعوان المعتدين على الزهراء ( عليها السلام ) ، والغاصبين لحق الإمام علي ( عليه السلام ) ، بل كان من المعادين لأهل البيت ( عليهم السلام )
(32) . .
خامساً : إنه كيف يدعو النبي ( صلى الله عليه وآله ) خيار أصحابه ليأكلوا من الشاة ، فيأكلون إلى حد الشبع ، ثم لا يصيبهم أي شيء . ويبقون أحياءً بعد موته ( صلى الله عليه وآله ) عشرين عاماً وأكثر من ذلك . . لكنه هو ( صلى الله عليه وآله ) وحده الذي يصاب .
حيث تذكر الروايات الأخرى : أنه ( صلى الله عليه وآله ) بعد ثلاث سنوات قد وجد ألم أكلته بخيبر ، وأن عرقه الأبهر قد انقطع . . بل بعض الروايات تقول : فما زال ينتقض به سمه حتى مات ( صلى الله عليه وآله ) ؟! .
سادساً : إن رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) قد ذكرت أيضاً أمراً خطيراً ، نجل عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل الإجلال . . وهو :
أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يصلِّ على البراء بانتظار حضور الإمام علي ( عليه السلام ) ، لكي يُحِلَّه مما كلمه به . وليكون موته بذلك السم كفارة له . .
ولكنه ( صلى الله عليه وآله ) حين اعترضوا عليه ، بأن البراء قد قال ذلك مزاحاً ، ولم يكن ليؤاخذه الله بذلك ، تراجع ( صلى الله عليه وآله ) عن ذلك ، وقال : « . . ولكنه كان مزحاً ، وهو في حل من ذلك » . .
ثم اعتذر لهم عن موقفه الأول بأنه يريد أن لا يعتقد أحد منهم بأن الإمام علياً ( عليه السلام ) واجد عليه ، فأراد أن يجدد بحضرتهم إحلالاً له ، ويستغفر له . . ليزيده الله بذلك قربة ورفعة في جنانه . .
وهذا معناه : أن هذه الرواية تنسب إلى رسول الله ـ والعياذ بالله ـ التدليس ، والإخبار بغير الحق . . ثم التراجع عن الموقف بعد ظهور الأمر . . و . . و الخ . . وحاشاه من ذلك كله . .
سابعاً : هل صدَّق رؤساء اليهود بنبوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قالوا له : إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد ؟!
وكيف صدقهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون في قولهم هذا ؟! . ألم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد زارهم قبل ذلك ، واجتمع بهم ؟! فهل كانوا يقومون أيضاً ، ويسدَّون آنافهم بالصوف . .حتى لا يتأذى بأنفاسهم ؟! .
وحين سدوا آنافهم بالصوف مخافة سَوْرة السم ، هل تنفسوا من أفواههم بعد سد الآناف ؟! . . وهل أن التنفس من الفم يمنع من سَوْرة السم حقاً ؟! أم أنهم سدوها بالصوف ، والتزموا بأن يتنفسوا منها أيضاً ؟