عرض مشاركة واحدة
قديم 2019/11/13, 04:03 PM   #2
شجون الزهراء

معلومات إضافية
رقم العضوية : 1426
تاريخ التسجيل: 2013/04/24
المشاركات: 6,684
شجون الزهراء غير متواجد حالياً
المستوى : شجون الزهراء will become famous soon enough




عرض البوم صور شجون الزهراء
افتراضي


فقال بعض اليهود لحبر من احبارهم : ما بكاؤكم؟ قال : من هذا الرجل الذي يظهر منه سفك الدماء، وقد جاءكم السفاك الفتاك الذي تقاتل معه الاملاك، المعروف بكتبكم بالماحي، وهذا انواره قد ابتدرت. قال : فبكى اليهود من قوله وقالوا له : يا ابانا، فهل هذا الذي ذكرت نصل الى قتله ونكفى شره؟.

فقال لهم : هيهات، حيل بينكم وبين ما تشتهون، وعجزتم عما تأملون، ان هذا هو المولود الذي ذكرت لكم، يقاتل معه الاملاك في الهواء، ويخاطب من السماء، ويقول : قال جبرئيل عن رب السماء، فقالوا : هذا تكون له هذه المنزلة؟ قال : اعز من الولد عند الوالد، فانه اكرم اهل الارض على الله تعالى، واكرم اهل السموات، فقالوا : ايها السيد الكريم، نحن نسعى في اطفاء ضوء هذا المصباح قبل ان يتمكن ويحدث علينا منه كل مكروه.

واضمر القوم لهاشم العداوة، وكان بدو عداوة اليهود من ذلك اليوم لرسول الله (صلى الله عليه واله)، فلما اصبح هاشم امر اصحابه ان يلبسوا افخر اثوابهم، وان يظهروا زينتهم، فلبسوا ما كان عندهم من الثياب، وما قد اعدوا للزينة والجمال، واظهروا التيجان والجواشن والدروع والبيض، فاقبلوا يريدون سوق بني قينقاع، وقد شدوا لواء نزار على قناة، واحاطوا بهاشم عن يمينه وعن شماله، ومشى قدامه العبيد، وابو سلمى معهم واكابر قومه ومعهم جماعة من اليهود.

فلما اشرفوا على السوق، وكان يجتمع اليه الناس من اقاصي البلاد واقطارها واهل الحضر و سكانها، فنظر القوم الى هاشم واصحابه وتركوا معاشهم، واقبلوا ينظرون الى هاشم، ويتعجبون من حسنه وكماله وجماله، وكان هاشم بين اصحابه كالبدر المنير بين الكواكب، وعليه السكينة والوقار، فاذهل بجماله اهل السوق، وجعلوا ينظرون الى النور الذي بين عينيه، وكان سلمى بنت عمرو واقفة مع الناس تنظر الى هاشم وحسنه وجماله، وما عليه من الهيبة والوقار؛ اذ اقبل عليها ابوها وقال لها : يا سلمى، ابشرك بما يسرك ولا يضرك، وكانت معجبة بنفسها من حسنها وجمالها.

فلما نظرت الى هاشم وجماله نسيت حسنها وجمالها، وقالت : يا أبت، بما تبشرني؟ قال : ان هذا الرجل اليك خاطب، وفيك راغب، وهو يا سلمى من أهل الكفاف والعفاف، والجود والاضياف، هاشم بن عبد مناف، وانه لم يخرج لغير ذلك.

فلما سمعت سلمى كلام ابيها أعرضت عنه بوجهها، وادركها الحياء، فأمسكت عن الكلام، ثم قالت : يا أبت، ان النساء يفتخرن على الرجال بالحسن والجمال، والقدر والكمال، فاذا كان زوج المراة سيدا من سادات العرب، وكان مليح المنظر المخبر، فما اقول لك، وقد عرفت ما جرى بيني وبين احيحة بن الجلاح الاوسي وحيلتي عليه حتى خلعت نفسي منه لما علمت انه لم يكن من الكرام، وان هذا الرجل يدل عظمته ونور وجهه على مروته، واحسانه يدل على فخره، فان يكن القوم – كما ذكرت- قد خطبونا ورغبوا فينا، فاني فيهم راغبة، ولكن لا بد ان اطلب منهم المهر، ولا أصغر نفسي، وسيكون لنا ولهم خطاب وجواب، وكان القول منها لحال ابيها؛ لانها لم تصدق بذلك حتى نزل هاشم قريبا من السوق، واعتزل ناحية منه، فاقبل اهل السوق مسرعين ينظرون الى نوره حتى ضاع كثير من متاعهم ومعاشهم من نظرهم اليه، وقد نصبت له خيمة من الحرير الاحمر، ووضعت له سرادقات.

فلما دخل هاشم و اصحابه الخيمة تفرق اهل السوق عنهم، وجعل يسال بعضهم بعضا عن امر هاشم وقومه، وما اقدمهم عليهم من مكة : انه جاء خاطبا لسلمى، فحسدوها عليه، وكانت اجمل اهل زمانها، واكملهم حسنا وجمالا، وكانت جارية تامة معتدلة، لها منظر ومخبر، كاملة الاوصاف، معتدلة الاطراف، سريعة الجواب، حسنة الاداب، عاقلة، ظريفة، عفيفة، لبيبة، طاهرة من الادناس، فحسدوها كلهم على هاشم حتى حسدها ابليس (لعنه الله)، وكان قد تصور لها في صورة شيخ كبير، وقال : يا سلمى، انا من اصحاب هاشم، قد جئتك ناصحا لك، اعلمي ان لصاحبنا هذا من الحسن والجمال ما رأيت، الا انه رجل ملول للنساء، لا تقيم المرأة عنده اكثر من شهرين اذا اراد، والا فعشرة ايام، وقد تزوج نساء كثيرة، وع ذلك انه جبان في الحروب، فقالت سلمى : اليك عني، فوالله! لو ملا لي حصنا من المال ما قبلته، ولو ملأ لي حصون خيبر ذهبا وفضة ما رغبت فيه لهذه الخصال التي ذكرت، ولقد كنت احببته ورغبت فيه، وقد قلت رغبتي فيه لهذه الخصال، اذهب عني، فانصرف عنها وتركها في همها وغمها.

ثم ان ابليس (لعنه الله) تصور لها بصورة اخرى، وزعم انه من اصحاب هاشم، وذكر لها مثل الاول، فقالت : اولست الذي أرسلت اليك ان لا يرسل الي رسولا بعد ذلك.

فسكت ابليس (لعنه الله) فقالت : ان أرسل رسولا بعدك أمرت بضرب عنقه، فخرج ابليس فرحا مسرورا، وقد القى في قلبها البغضة لهاشم، وظن ان هاشما يرجع خائبا، فعند ذلك دخل عليها أبوها فوجدها في سكرتها وحيرتها، فقال : يا سلمى، ما الذي حل بك هذا اليوم، وهذا يوم سرورك!؟.

فقالت : يا أبت، لا تزدني كلاما، فقد فضحتني، وشهرت امري، اردت ان تزوجني رجلا ملولا للنساء، كثير الطلاق، جبانا في الحروب، فضحك ابوها وقال : يا سلمى والله! ما لهذا الرجل شيء من هذه الخصال الثلاث، وان الى كرمه الغاية، والى جوده النهاية، وانما سمي هاشما لانه اول من هشم الثريد لقومه، واما قولك : كثير الطلاق، فانه ما طلق امراة قط، واما قولك : جبان، فهو واحد أهل زمانه في الشجاعة، وانه لمعروف عند الناس بالجواب والخطاب والصواب، فقالت : يا أبت، لو انه ما جاءني عنه الا واحد كذبته وقلت انه عدو له، وقد جاءني ثلاثة من نفر كل واحد منهم يقول مثل مقالة الاخر فقال ابوها : ما رأينا منه رسولا : ولا جاءنا منه خبر، وكان الشيطان يظهر لهم في ذلك الزمان ويأمرهم وينهاهم، وقد صح عندها ما قال الرجيم، وهي تظن انه من بني آدم، وهاشم لا يعلم شيئا من ذلك، وكان قد عول على خطبتها في غد في جمع من قومه.

ثم ان سلمى خرجت في بعض حوائجها، وهي تحب ان تنظر الى هاشم، فجمع بينهما في الطريق، فوقع في قلبها امر عظيم من محبته، وكان في ذلك الزمان لا تستحي النساء من الرجال، ولا يضرب بينهن حجاب، الى ان بعث الله محمدا (صلى الله عليه واله).

ونزل طائفة من اليهود من جهة خيمة هاشم، ولما اجتمعت سلمى بهاشم عرفته بالنور الذي في وجهه، وعرفها ايضا هو، فقالت : يا هاشم، قد احببتك واردتك، فاذا كان غد فاخطبني من ابي، ولا يعز عليك ما يطلب أبي منك، فان لم تصله يدك ساعدتك عليه.

فلما اصبح تأهب هاشم للقاء القوم فتزينوا بزينتهم، واذا اهل سلمى قد قدموا، فقام من كان في الخيمة اجلالا لهم، وجلس هاشم واخوه وبنوا عمه في صدر الخيمة، فتطاولت القوم الى هاشم فابتدأهم المطلب بالكلام، وقال : يا أهل الشرف والاكرام، والفضل والانعام، نحن وفد بيت الله الحرام، والمشاعر العظام، والينا سعت الاقدام، وانت تعلمون شرفنا وسؤددنا، وما قد خصنا الله به من النور الساطع، والضياء اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النور الى عبد مناف، ثم الى اخينا هاشم، وهو معنا من ادم، الى ان صار الى هاشم، وقد ساقه الله اليكم، وقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون.

ثم امسك عن الكلام، فقال عمرو ابو سلمى : لكم التحية والاكرام، والاجابة والاعظام، وقد قبلنا خطبتكم، واجبنا دعوتكم، وانتم تعرفون علتنا، ولا يخفى عليكم احوالنا، ولا بد من تقديم المهر كما كان سلفنا واباؤنا، ولولا ذلك ما واجهناكم بشيء من ذلك ولا قابلناكم به أبدا، فعند ذلك قال المطلب : لكم عندي مائة ناقة سود الحدق، حمر الوبر، لم يعلها جمل، فبكى ابليس (لعنه الله)، وكان من جملة من حضر، وجلس عند ابي سلمى، وأشار اليهان اطلب الزيادة، معاشر السادات، ما هذا قدر ابنتنا عندكم.

فقال عبد المطلب : ولكم الف ألف مثقال من الذهب الاحمر، فغمز ابليس (لعنه الله) أبا سلمى، واشار اليه ان اطلب الزيادة، فقال : يا فتى قصرت في حقنا فيما قلت، واقللت فيما بذلت، فقال : ولكم عندنا حمل عنبر، وعشرة اثواب من قباطي مصر، وعشرة من ارض العراق، فقد انصفناكم، فغمز ابليس (لعنه الله) ابا سلمى وأشار اليه ان اطلب الزيادة، فقال : يا فتى، قد قاربت واجملت.

قال له المطلب : ولكم خمس وصائف برسم الخدمة، فهل تريدون اكثر من ذلك؟.

فاشار اليه ابليس (لعنه الله) ان اطلب الزيادة، فقال ابو سلمى : يا فتى، ان الذي بذلتموه لنا اليكم راجع.

فقال المطلب : ولكم عشر اواق من المسكم الاذفر، وخمسة اقداح ما الكافور، فهل رضيتم ام لا؟ فهم ابليس ان يغمز ابا سلمى، فصاح به ابو سلمى وقال له : يا شيخ السوء، اخرج لقد جئت شيئا نكرا، فوالله! لقد اخجلتني، فقال له المطلب : اخرج يا شيخ السوء، فقام الشيطان وخرج وخرج اليهود معه.

ثم قال ارمون بن قيطون رئيس اليهود : يا قوم، ان هذا الشيخ يعني ابليس (لعنه الله) احكم الحكماء، وهو معروف في بلادنا بالحكمة، وفي الشام والعراق، وبعد ذلك اننا ما نزوج ابنتنا برجل غريب من غير بلدنا، فقامت اليهود وهم أربعمائة يهودي، وأهل الحرم أربعون سيدا وجردوا سيوفهم، وقال هاشم لأصحابه : دونكم القوم، فهذا تأويل رؤياي، فقامت الصيحة فيهم، فوثب المطلب على أرمون بن قيطون، ووثب هاشم على ابليس (لعنه الله)، فانحاز يريد الهرب، فادركه هاشم وقبضه ورفعه وجلد به الارض، فصرخ صرخة عظيمة لما غشاه نور رسول الله (صلى الله عليه واله) وصار ريحا، فالتفت هاشم الى اخيه المطلب فوجده قد قتل أرمون بن يقطون وقسمه نصفين، وقتل هاشم واصحابه جمعا كثيرا من اليهود، ووقعت الرجفة في المدينة، وخرج الرجال والنساء، وانهزم اليهود على وجوههم، ورجع ابو سلمى وقال لقومه : مزجتم الفرح بالترح، وما كان سبب الفتنة الا من إبليس (لعنه الله)، فوضع السيف عن اليهود بعد ان قتل منهم اثنين وسبعين رجلا، وكانت عداوة اليهود لرسول الله (صلى الله عليه واله) من ذلك اليوم.

ثم ان هاشما قال لاصحابه : هذا تأويل رؤياي.

فقال هاشم : يا معاشر اليهود، انما اغواكم الشيطان الرجيم، فانظروا الى صاحبكم، فان وجدتموه فاعلموا انه كما زعمتم حكيم من حكمائكم، وان لم تجدوه فقد حيل بينكم وبينه، وظننتم انه من احباركم، وما هو الا الشيطان اغواكم.

ثم ان ابا سلمى عمد الى اصلاح شانه، ورجع القوم الى أماكنهم وقد امتلأوا غيظا على اليهود، فاقبل هاشم الى منزله وأصلح الولائم، وأمر العبيد ان يحملوا الجفان المترعة باللبن ولحوم الضأن والابل، ثم ان عمرا مضى الى ابنته وقال لها : ان الرجل الذي يقول لك ان هاشما لجبان قد نطق بالمحال، والله! لولا ان امسكه وألحف عليه ما ترك من القوم واحدا، فقالت : يا أبت، امض معهم على كل حال ولا ملامة للائم.

قال : فلما اكلوا ورفعوا ايديهم، قال لهم ابو سلمى : يا معاشر السادات، اصرفوا عن قلوبكم الغيظ وكل هم، فنحن لكم وابنتنا هدية.

فقال المطلب : لك ما ذكرناه وزيادة، ثم قال : يا اخي هاشم، أرضيت بما تكلمت به عنك ؟ .

قال : نعم، فعند ذلك تصافحوا، ومضى ابو سلمى واخرج من كمه دنانير ودراهم فنثر الدنانير على هاشم واخيه المطلب، ونثر الدراهم على اصحابه، ونثر عليهم المسك الاذفر والكافر والعنبر حتى غمر اطمارهم، ثم قال : يا هاشم، تحب الدخول على زوجتك هذه الليلة، او تصبر لها حتى نصلح لها شانها؟.

قال : بل اصبر حتى تصلح شانها، فعند ذلك امر بتقديم مطاياهم، فركبوا وخرجوا.

ثم ان هاشما دفع الى اخيه المطلب ما حضره من المال، وامره ان يدفعه الى سلمى، فلما جاءها المطلب فرحت به وبذلك المال ، وقالت : يا سيد الحرم، وخير من مشى على قدم، سلم على اخيك وقل له : ما الرغبة الا فيك، فاحفظ منا ما حفظنا منك .

ثم اقام هاشم اياما ودخل على زوجته سلمى في مدينة يثرب، وحضر عرسها الحاضر والبادي من جميع الافاق، فلما دخل بها رأى ما يسره من الحسن والجمال والهيبة والكمال.

ثم ان سلمى دفعت اليه جميع المال الذي دفعه اليها وزادته اضعافا فلما واقعها حملت منه في ليلتها بعبد المطلب جد رسول الله (صلى الله عليه واله)، ولما انتقل النور الذي كان في وجهه الى سلمى زادها حسنا وجمالا وكمالا، حتى شاع حسنها في الافاق، وكان يناديها الشجر والحجر والمدر بالتحية والاكرام، وتسمع قائلا يقول عن يمينها : السلام عليك يا خير البشر، ولم تزل تحدث بما ترى حتى حذرها هاشم، فكانت تكتم امرها عن قومها حتى اذا كان ذات ليلة سمعت قائلا يقول : لك البشرى اذا اوتيت أكرم من مشى وخير النساء من حضر وبدا، فلما سمعت ذلك لم تدع هاشما يلامسها بعد ذلك.

ثم ان هاشما اقام في المدينة اياما حتى اشتهر حمل سلمى، فقال لها : يا سلمى، اني اودعتك الوديعة التي وادعها الله تعالى آدم، واودعها ادم ولده شيتا، ولم يزالوا يتوارثها من واحد الى واحد الى ان وصلت الينا، وشرفنا الله بهذا النور، وقد اودعته اياك، وها انا اخذ عليك العهد والميثاق بان تقيه وتحفظيه، وان اتيت به وانا غائب عنك فليكن عندك بمنزلة الحدقة من العين، والروح بين الجنبين، وان قدرت على ان لا تراه العيون فافعلي، فان له حسادا واضدادا، واشد الناس عليه اليهود، وقد رأيت ما جرى بيننا وبينهم يوم خطبتك، وان لم ارجع من سفري هذا، او سمعت اني قد هلكت، فليكن عندك محفوظا مكرما الى ان يترعرع، واحمليه الى الحرم الى عمومته في دار عزه ونصرته، ثم قال لها : اسمعي واحفظي ما قلت لك، قالت : نعم قد سمعت واطعت، ولقد أوجعتني بكلامك، فانا اسال الله ان يردك سالما.

ثم خرج هاشم واخوه المطلب واصحابه، واقبل عليهم وقال : يا بني ابي وعشيرتي من بني لؤي، ان الموت سبيل لا بد منه، وانا غائب عنكم ولا أدري اني ارجع اليكم ام لا، وانا اوصيكم : اياكم والتفرق والشتات فتذهب حميتكم، وتقل قيمتكم، ويهون قدركم عند الملوك، ويطمع فيكم الطامع، فهل انت يا اخي لما اقول لك سامع؟ واني مخلف فيكم، ومقدم عليكم اخي المطلب دون اخوتي، لانه من أبي وامي، وأعز الخلق عندي، وان سمعتم وصيتي وقدمتوه وسلمتم اليه مفاتيح الكعبة وسقاية الحاج ولواء نزار وكل ما كان من مكارم الانبياء؛ سعدتم، واني اوصيكم بولدي الذي اشتملت عيله سلمى، فانه سيكون له شأن عظيم، ولا تخالفوا قولي، قالوا : سمعنا واطعنا، غير انك كسرت قلوبنا بوصيتك، وازعجت افئدتنا بقولك.

قال : ثم ان هاشما سافر الى غزة الشام، فحضر موسمها، وباع امتعته، واشترى ما كان يصلح له، واشترى لسلمى طرفا وتحفا، ثم انه تجهز للسفر، فلما كانت الليلة التي عزم فيها على الرحيل طرقته حوادث الزمان، واتته العلة، فأصبح مثقلا، وارتحل رفقاؤه وبقي هاشم وعبيدة واصحابه.

فقال لهم : الحقوا بأصحابكم، فاني هالك لا محالة، فارجعوا الى مكة، وان مررتم على يثرب فاقرؤوا زوجتي سلمى عني السلام، وخبروها بخبري، وعزوها شخصي، واوصوها بولدي، فهو أكبر همي، ولولاه ما نلت أمري، فبكى القوم بكاء شديدا، وقالوا : ما نبرح عنك حتى ننظر ما يكون من امرك، واقاموا يومهم، فلما اصبحوا ترادفت عليه الامراض، فقالوا له : كيف تجد نفسك؟.

فقال : لا مقام لي معكم اكثر من يومي هذا، وغدا توسدوني التراب، فبكى القوم بكاء شديدا، وعلموا انه مفارق الدنيا، ولم يزالوا يشاهدونه حتى طلع الفجر الاول، فاشتد به الامر، فقال لهم : أقعدوني وسندوني واتوني بدواة وقرطاس، فأتوه بما طلب، وجعل يكتب واصابعه ترتعد، فكتب : باسمك اللهم، هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه امر مولاه بالرحيل، اما بعد، فاني كتبت اليكم هذا الكتاب وروحي بالموت تجاذب؛ لانه لا لاحد من الموت مهرب، واني قد انفذت اليكم اموالي فتقاسموها بينكم بالسوية، ولا تنسوا البعيدة عنكم التي اخذت نوركم، وحوت عزكم، سلمى.

وأوصيكم بولدي الذي منها، وقولوا لخلادة وصفية ورقية يبكين علي ويندبنني ندب الثاكلات، ثم بلغوا سلمى عني السلام، وقولوا لها : آه، ثم آه، اذ لم اتزود من قربها، والنظر اليها والى ولدها، والسلام عليم ورحمة الله وبركاته الى يوم النشور.

ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه الى اصحابه، وقال : اضجعوني، فاضجعوه، فشخص ببصره نحو السماء، ثم قال : رفقا رفقا ايها الرسول بحق ما حملت من نور المصطفى، فكانه كان مصباحا فانطفى.

ثم لما مات جهزوه ودفنوه، وقبره معروف هناك.


توقيع : شجون الزهراء

اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. اِلـهي وَاْجَعَلْني مِمَّنْ نادَيْتَهُ فَاَجابَكَ، وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ، فَناجَيْتَهُ سِرّاً وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً.
رد مع اقتباس